الثالث: قد ذكرنا ما حكاه (ابن عبد البر) من تعميم الحكم بالاتصال فيما يذكره الراوي عمن لقيه بأيِّ لفظ كان. وهكذا أطلق (أبو بكر الشافعي الصيرفي) ذلك فقال: كل من عَلِمَ له سماع من إنسان، فحدث عنه، فهو على السماع، حتى يعلم أنه لم يسمع منه ما حكاه. وكل من علم له لقاء إنسان، فحدَّث عنه، فحكمه هذا الحكم. وإنما قال هذا فيمن لم يظهر تدليسه.
ومن الحُجة في ذلك وفي سائر الباب: أنه لو لم يكن قد سمعه منه لكان بإطلاقه الرواية عنه - من غير ذكر الواسطة بينه وبينه - مدلساً، والظاهر السلامة من وصمة التدليس، والكلام فيمن لم يُعرف بالتدليس.
ومن أمثلة ذلك: قوله (قال فلان كذا وكذا) مثل أن يقول نافع: قال ابن عمر. وكذلك لو قال عنه (ذكر، أو: فعل، أو: حدَّث، أو: كان يقول كذا وكذا) وما جانس ذلك، فكل ذلك محمول ظاهراً على الاتصال، وأنه تلقى ذلك منه من غير واسطة بينهما، مهما ثبت لقاؤه له على الجملة.
ثم منهم من اقتصر في هذا الشرط المشترط في ذلك ونحوه على مطلق اللقاء، أو السماع، كما حكيناه آنفاً. وقال فيه (أبو عمرو المقري): إذا كان معروفاً بالرواية عنه. وقال فيه (أبو الحسن القابسي): إذا أدرك المنقول عنه إدراكاً بيِّناً.
وذكر (أبو المظفر السمعاني) في العنعنة: أنه يشترط طول الصحبة بينهم. وأنكر (مسلم بن الحجاج) في خطبة صحيحه على بعض أهل عصره، حيث اشترط في العنعنة ثبوت اللقاء والاجتماع، وادعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه، وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديماً وحديثاً: أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصرٍ واحدٍ، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا أو تشافها.
وفيما قاله (مسلم) نظر، وقد قيل: إن القول الذي رده (مسلم) هو الذي عليه أئمة هذا العلم: (علي بن المديني)، و(البخاري)، وغيرهما، والله أعلم.
قلت: وهذا الحكم لا أراه يستمر بعد المتقدمين، فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم، مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه (ذكر فلان) ونحو ذلك، فافهم كل ذلك، فإنه مهم عزيز، والله أعلم.
الرابع: التعليق الذي يذكره (أبو عبد الله الحميدي)، صاحب (الجمع بين الصحيحين) وغيرُه من المغاربة، في أحاديث من (صحيح البخاري) قطع إسنادها - وقد استعمله (الدارقطني) من قبل - صورته صورة الانقطاع، وليس حكمه حكمه، ولا خارجاً ما وجد ذلك فيه منه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف، وذلك لما عرف من شرطه وحكمه، على ما نبهنا عليه في الفائدة السادسة من النوع الأول.
ولا التفات إلى (أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ) في رده ما أخرجه (البخاري)، من حديث أبي عامر - أو: أبي مالك -الأشعري، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ ..)) الحديث. من جهة أن (البخاري) أورده قائلاً فيه: قال (هشام بن عمار).. وساقه بإسناده، فزعم (ابن حزم) أنه منقطع فيما بين (البخاري) و(هشام)، وجعله جواباً عن الاحتجاج به على تحريم المعازف. وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح. و(البخاري) رحمه الله قد يفعل ذلك، لكون ذلك الحديث معروفاً من جهة الثِّقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه. وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسنداً متصلاً وقد يفعل ذلك ليغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع، والله أعلم.
وما ذكرناه من الحكم في التعليق المذكور فذلك فيما أورده منه أصلاً ومقصوداً لا فيما أوردهُ في معرض الاستشهاد، فإن الشواهد يحتمل فيها ما ليس من شرط الصحيح، معلقاً كان أو موصولاً. ثم إن لفظ التعليق وجدته مستعملاً فيما حُذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر. حتى إن بعضهم استعمله في حذف كل الإسناد.
مثال ذلك: قوله: قال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كذا وكذا. قال ابن عباس كذا وكذا. روى أبو هريرة كذا وكذا. قال سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة كذا وكذا. قال الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كذا وكذا. وهكذا إلى شيوخ شيوخه. وأما ما أورده كذلك عن شيوخه فهو من قبيل ما ذكرناه قريباً في الثالث من هذه التفريعات.
وبلغني عن بعض المتأخرين من أهل المغرب أنه جعله قسماً من التعليق ثانياً، وأضاف إليه قول (البخاري) في غير موضع من كتابه (وقال لي فلان، وزادنا فلان) فوسم ذلك بالتعليق المتصل من حيث الظاهر، المنفصل من حيث المعنى، وقال: متى رأيت البخاري يقول (وقال لي، وقال لنا) فاعلم أنه إسناد لم يذكره للاحتجاج به، وإنما ذكره للاستشهاد به. وكثيراً ما يُعِّبر المحِدثُون بهذا اللفظ عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات، وأحاديث المذاكرة قلَّما يحتجون بها.
قلت: وما ادعاه على (البخاري) مخالف لما قاله من هو أقدم منه وأعرف بالبخاري، وهو العبد الصالح (أبو جعفر بن حمدان النيسابوري)، فقد روينا عنه أنه قال: كل ما قال البخاري (قال لي فلان) فهو عرضُُ ومناولة.
قلت: ولم أجد لفظ التعليق مستعملاً فيما سقط فيه بعض رجال الإسناد من وسطه أو من آخره، ولا في مثل قوله (يروى عن فلان، ويذكر عن فلان) وما أشبهه مما ليس فيه جزم على من ذكر ذلك بأنه قاله وذكره. وكأن هذا التعليق مأخوذ من تعليق الجدار، وتعليق الطلاق ونحوه، لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتصال، والله أعلم.
الخامس: الحديث الذي رواه بعض الثِّقات مرسلاً وبعضهم متصلاً: اختلف أهل الحديث في أنه ملحق بقبيل الموصول أو بقبيل المرسل. مثاله: حديث ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ )) رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن أبي بردة، عن أبيه، أبي موسى الأشعري، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مسنداً هكذا متصلاً. ورواه سفيان الثوري، وشعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مرسلاً هكذا.
فحكى (الخطيب الحافظ): أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل. وعن بعضهم: أن الحكم للأكثر. وعن بعضهم: أن الحكم للأحفظ، فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله، ثم لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته. ومنهم من قال: الحكم لمن أسنده إذا كان عدلاً ضابطاً، فيقبل خبره وإن خالفه غيره، سواء كان المخالف له واحداً أو جماعة. قال الخطيب: هذا القول هو الصحيح.
قلت: وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله. وسُئل البخاري عن حديث: ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ )) المذكور، فحكم لمن وصله، وقال: الزيادة من الثقة مقبوله، فقال البخاري: هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان، وهما جبلان، لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية. ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصلهُ هو الذي أرسله، وصله في وقت وأرسله في وقت. وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ووقفه بعضهم على الصحابي. أو رفعه واحدٍ في وقتٍ ووقفهُ هو أيضاً في وقتٍ آخر. فالحكم على الأصح في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع، لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافياً فالمثبت مقدم عليه، لأنه علم ما خفي عليه. ولهذا الفصل تعلق بفصل (زيادة الثقة في الحديث) وسيأتي إن شاء الله تعالى، وهو أعلم