وصنف أبو الوليد كتباً كثيرة منها كتاب التسديد إلى معرفة التوحيد وكتاب سنن المنهاج وترتيب الحجاج وكتاب إحكام الفصول في أحكام الأصول وكتاب التعديل والتجريح لمن خرّج عنه البخاري في الصحيح وكتاب شرح الموطأ وهو نسختان: نسخة سمّاها الاستيفاء، ثم انتقى منها فوائد سمّاها المنتقى في سبع مجلدات، وهو أحسن كتاب ألّف في مذهب مالك، لأنّه شرح في أحاديث الموطّأ، وفرّع عليها تفريعاً حسناً، وأفرد منه شيئاً سمّاه الإيماء، وقال بعضهم: إنّه صنف كتاب المعاني في شرح الموطّأ فجاء عشرين مجلداً عديم النظير، وكان أيضاً صنف كتاباً كبيراً جامعاً يلغ فيه الغاية سمّاه الاستيفاء، وله كتابا لإيماء في الفقه، خمس مجلدات، انتهى.
ومن تصانيفه مختصر المختصر في مسائل المدونة، وله كتاب اختلاف الموطأ وكتاب الإشارة في أصول الفقه وكتاب الحدود وكتاب سنن الصالحين وكتاب التفسير لم يتمّه، وكتاب شرح المنهاج وكتاب التبيين لسبيل المهتدين في اختصار فرق الفقهاء، وكتاب السراج في الخلاف، ولم يتم، وغير ذلك.
وحجّ الباجي رحمه اله تعالى أربع حجج جور فيها ثلاثة أعوام ملازماً لأبي ذر عبد بن أحمد الهروي، وكان يسافر معه للسّروات لأن أبا ذر تزوّج من العرب، وسكن بها.
ترجمة أبي ذر الهروي وأبو ذر المذكور هو عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير الأنصاري المالكي، ويعرف بابن السمّاك، سمع بهراة وسرخس وبلخ ومرو والبصرة وبغداد ودمشق ومصر، وجاور بمكة، وألّف معجماً لشيوخه، وعمل الصحيح، وصنف التصانيف، قال الخطيب: قدم أبو ذرّ بغداد وأنا غائب، فحدث بها، ثم حجّ وجاور، ثم تزوّج في العرب، وسكن السّروات، وكان يحجّ كل عام ويحدث ويرجع، وكان ثقة ضابطاً ديّناً، وقال الحسن بن بقيّ المالقي: حدّثني شيخي قال: قيل لأبي ذر: من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنّك هروي? فقال: قدمت بغداد وكنت ماشياً مع الدارقطني، فلقينا أبا بكر ابن الطيب، فالتزمه الدارقطني، وقبّل وجهه وعينيه، فلمّا افترقنا قلت: من هذا? قال: هذا إمام المسلمين، والذابّ عن الدين، القاضي أبو بكر ابن الطيب، فمن ذلك الوقت تكررت إليه وتمذهبت بمذهبه، انتهى.
قلت: هذا صريح في أن القاضي أبا بكر الباقلاني مالكي، وهو الذي جزم به غير واحد، ولذا ذكره عياض في المدارك في جملة المالكية، وكذلك شيخ السنّة الإمام أبو الحسن الأشعري مالكي المذهب فيما ذكره غير واحد من الأئمة، وذكر بعض الشافعية أنهما شافعيان، والله تعالى أعلم.
وقال عبد الغافر في تاريخ نيسابور: كان أبو ذرّ زاهداً، ورعاً، عالماً، سخيّاً لا يدّخر شيئاً، وصار كبير مشيخة الحرم، مشاراً إليه في التصوف، خرّج على الصحيح تخريجاً حسناً، وكان حافظاً، كثير الشيوخ، توفّي سنة 435، وقال أبو علي ابن سكرة: توفّي عقب شوّال سنة 434، وقال الخطيب: في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثين، رحمه الله تعالى، وأكثر نسخ البخاري الصحيحة بالمغرب إمّا من رواية الباجي عن أبي ذر عبد بن أحمد الهروي المذكور، وإمّا من رواية أبي علي الصّدفي الشهير المعروف بابن سكرة بسنده.
واعلم أن هراة المنسوب إليها الحافظ أبو ذر ليست بهراة التي وراء النهر نظيرة بلخ، وإنّما هي هراة بني شيمانة بالحجاز، وبها كان سكنى أبي ذر، والله أعلم.
رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى ثم إنّه - أعني الباجي - قدم بغداد، وأقام بها ثلاثة أعوام يدرّس الفقه، ويقرأ الحديث، فلقي بها عدّة من العلماء كأبي الطيب الطبري والإمام الشهير أبي إسحاق الشيرازي والصّيمري وابن عمروس المالكي، وأقام بالموصل سنة مع أبي جعفر السّمناني يأخذ عنه علم الكلام؛ فبرع في الحديث وعلله ورجاله، وفي الفقه وغوامضه وخلافه، وفي الكلام ومضايقه، وتدبج مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي بحيث روى كل واحد منهما عن الآخر، رضي الله تعالى عنهما ونفع بهما. ورجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم جمٍّ حصّله مع الفقر والتّعفّف.