معرفة الحسن من الحديث: روينا عن (أبي سليمان الخطابي) - رحمه الله - أنه قال بعد حكايته أن الحديث عند أهله ينقسم إلى الأقسام الثلاثة التي قدمنا ذكرها: الحسن: ما عرف مخرجه واشتهر رجاله. قال: وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء. وروينا عن (أبي عيسى الترمذي) رضي الله عنه أنه يريد بالحسن: أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون حديثاً شاذاً، ويروى من غير وجه نحو ذلك.
وقال بعض المتأخرين: الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل هو الحديث الحسن، ويصلح للعمل به.
قلت: كل هذا مستبهم لا يشفي الغليل، وليس فيما ذكره (الترمذي) و(الخطابي) ما يفصل الحسن من الصحيح، وقد أمعنت النظر في ذلك والبحث، جامعاً بين أطراف كلامهم، ملاحظاً مواقع استعمالهم، فتنقَّح لي واتضح أن الحديث الحسن قسمان:
أحدهما: الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه، ولا هو متهم بالكذب في الحديث - أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث ولا سبب آخر مفسق - ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف، بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر، حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله، أو بما له من شاهد، وهو ورود حديث آخر بنحوه، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً ومنكراً، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل.
القسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح، لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكراً، ويعتبر في كل هذا - مع سلامة الحديث من أن يكون شاذاً ومنكراً - سلامته من أن يكون معللاً.. وعلى القسم الثاني يتنزل كلام الخطابي.
فهذا الذي ذكرناه جامع لما تفرق في كلام من بلغنا كلامه في ذلك، وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن، وذكر الخطابي النوع الآخر، مقتصراً كل واحد منهما على ما رأى أنه يُشكل، معرضاً عما رأى أنه لا يُشكل، أو أنه غفل عن البعض وذهل، والله أعلم، هذا تأصيل ذلك وتوضيحه.