واعلم أن عقيدة السلف في التوحيد هي ما سقناه إليك وسيتضح ذلك بمراجعة مؤلفاتهم، وليس هناك تقسيم للتوحيد إلى توحيد ربوبية، وتوحيد إلوهية، وتوحيد أسماء وصفات، مع أن ذلك قد انتشر مؤخراً لمجرد مجاراة موضة تقليد ابن تيمية وأنصار السلفية المعاصرة، ولقد ابتدع ابن تيمية القول بالفرق في التوحيد بين توحيد الإلوهية والربوبية، والأسماء والصفات، ليتسنى له القول بأن خصومه وهم جمهور الأمـة الإسلامية في توسلهم وتبركهم بالأنبياء والأولياء مثل المشركين الذين وحدوا توحيد الربوبية ولكن ذلك لم ينجهم لأنهم يشركون في توحيد الإلوهية، وهذا كلام غير صحيح لأن المشرك لا يوصف بالتوحيد بأي حال من الأحوال، فلا يكون الشخص مسلماً موحداً حتى يؤمن بأن الله واحد في ذاته وصفاته وأسمائه وأنه وحده مستحق العبادة بحق، ولا يجوز صرف شيء من العبادة إلى غيره، والعبادة هي منتهى الخضوع والطاعة لمن يعتقد العابد إلوهيته، ومجرد المحبة أو الطاعة لا تسمى عبادة شرعاً، فكما أن اسم المشرك حقيقة لا ينطبق إلا على معتقد إلوهية شيء غير الله، أو استحقاقه لشيء من العبادة، كذلك لا يطلق اسم الموحد حقيقةً إلا على من لم يجزئ التوحيد فآمن بربوبية الله وإلوهيته من جميع الوجوه، وإلا فيكون مشركا كافراً باعتقاده إلوهية الغير أو استحقاقه لأي جزء من العبادة استقلالا أو مع الله تعالى، وما يصدر من عامة المسلمين من احترام شعائر الله كالتمسح بالكعبة أو الحجر الأسود أو مقام إبراهيم أو العتبات الشريفة بروضة الحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وما يصدر حتى من العلماء والأفاضل من توسلهم برسول الله، وتبركهم بآثاره كل ذلك ليس شيء منه يصدق عليه اسم العبادة وبالتالي فلا يصدق اسم الشرك على متعاطيه منهم لا لغةً ولا شرعاً .
ولقد أثلج صدري ما رأيته في رسالة كتبها أحد العلماء وهو الأستاذ حسـن بن علي السقـاف الحسيني الشافعي بعد أن ساق بعض الآيات والأحاديث قال: فمن هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يتضح وضوحاً جلياً أن الله سبحانه بيّن لنا أن التوحيد هو {لا إله إلا الله محمد رسول الله} ولم يذكر الله تعالى في كتابه ولا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في سنته أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد ربوبية وتوحيد إلوهية وتوحيد أسماء وصفات بل لم ينطق بهذا التقسيم أحد من الصحابة بل ولا أحد من التابعين بل ولا أحد من السلف الصالح رضي الله عن الجميع .
ثم قـال: بـل أن هذا التقسيم بدعة خلفية مذمومة حدثت في القرن الثامن الهجري أي بعد زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحو ثمانمائة سنة ولم يقل بهذا التقسيم أحد من قبل والهدف من هذا التقسيم عند من قال به هو تشبيه المؤمنين الذين لا يسيرون على منهج المتمسلفين بالكفار بل تكفيرهم بدعوى أنهم وحدوا توحيد ربوبية كسائر الكفار بزعمهم ولم يوحدوا توحيد إلوهية وهو توحيد العبادة الذي يدعونه، وبذلك كفروا المتوسلين بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو بالأولياء وكفروا أيضا كثيراً ممن يخالفهم في أمور كثيرة يرون الصواب أو الحق على خلافها، قال وكل ذلك سببه ذلك الحرانى يعنى ابن تيمية انتهى باختصار.
قلت: إن عقيدة تقسيم التوحيد لو خلت من تلك الأغراض السيئة في نفوس أصحابها من تكفير سواد الأمة الأعظم بسبب التوسل بالأنبياء والرسل والصالحين أو التبرك بآثارهم لما كان فيها شيء، ولكن ما داموا يجعلونها وسيلة لتحقيق أغراض فاسدة نتيجتها تفريق الأمة وتشتيت كلمتها ومفارقة الجماعة فلا يجوز التسامح معهم في ذلك، وواضح أن الله تبارك وتعالى أمر المسلمين بان يعتصموا بحبله جميعا ويتجنبوا الفرقة والشقاق كما قال:]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [ آل عمران:آية 1.2-1.3