عصره
درس الشيخُ القسَّامُ علوم الشريعة واللغة العربية في الأزهر، ثم عاد إلى موطنه مربيًا ومعلمًا ومصلحًا، حتى انتهت الحرب العالمية الأولى؛ تلك الحرب التي حشد فيها الشريف حسين ـ أميرُ مكة ـ حشودَ العرب لمساندة الحلفاء من الإنجليز والفرنسيين ومَنْ معهم ضد تركيا وألمانيا ومَنْ معهما، على أمل أن يفي له الإنجليز بعد النصر بوعودهم البراقة بإقامة دولة عربية كبرى له!!
وبانتهاء الحرب اجتاحت فرنسا بجحافلها سورية؛ موطنَ القسّام، وبلغت الأمور من السوء مبلغًا عظيما، ولما أبدى الشريف حسين اعتراضه ودعا إلى الوفاء بوعود ما قبل الحرب ـ زجره الجنرال "جورو" القائدُ الفرنسيُّ المنتصرُ بإنذارٍ رادعٍ شديدِ اللهجةِ، طالبًا منه عدم مناقشة هذا الموضوع، وأظهرت إنجلترا وجهَهَا الدَّمِيمَ، ونكثت بوعودها لحسين والعرب، وأصدرت قرارًا بفرض الانتداب الإنجليزي على العراق وفلسطين والأردنّ، والأفدحُ من ذلك: وَعَد وزير خارجيتها "بلفور" اليهودَ بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.
مواقفه
هو المجاهد الكبير عز الدين القسّام، وُلِدَ عام 1290هـ / 1871م في سوريّة لأسرة في جبلة الأدهمية من اللاذقية، وكان والدُه شيخَ زاوية في مدينته.
ومن تلك المنابع نَهَلَ القسَّام، فاكتسب صِبْغةً إسلاميةً خالصةً صُقلت بالدراسة في الأزهر الشريف، الذي كاد ينفرد يومئذٍ بكونه قبلةَ طلابِ علوم الشريعة واللغة العربية.
وفي الأزهر تَتَلْمَذَ القسَّام على بعض العلماء الأفذاذ، منهم: الشيخ محمد عبده، ثم عاد إلى موطنِهِ سوريّة، فعمل مدرسًا حتى انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918م، واجتاح الفرنسيون بلاده.
أعماله
نزلت جيوشُ فرنسا أرض سوريّةَ الكبرى (سوريا ولبنان حاليا)، وأعلنت فرضَ الانتداب عليها.
ومن هنا انطلق جهاد القسَّام، وأدركتْ فرنسا عبر أجهزة استخباراتِها خطورةَ ذلك الرجل بما له من نفوذ وتأثير على المسلمين، فحاولت استقطابَه بتوليته القضاء لينعزلَ عن الثورة فتَخْمُد جذوتها، لكن الرجل أبَى إلا الجهاد، وأفْتَى بفرضيته. وتأجَّجَتْ نيرانُ الثورة في أنحاء سوريّة عامًا ونصف العام، ورَوِيت أرض سورية بدماء المجاهدين.
وقد بادر الفرنسيون بإصدار حكم بإعدام الشيخ عز الدين القسَّام لعصيانه الأمر بتولِّي القضاء، وإشعاله الثورة ضدهم. فغادر القسَّام دمشق إلى حيفا، فدخلها عام 1341هـ ـ 5/2/1922م، فدرَّسَ بمدرسة حيفا الإسلامية، وصار أبًا للفدائيين العرب في فلسطين، وخطيبًا لجامع الاستقلال في حيفا، حيث دعا المسلمين إلى الجهاد، وجَنَّدَ الجُنْدَ، وكرّس الجُهْدَ تحت راية الدين، وأشعلها نارًا في وجه الغزاة الإنجليز والصهاينة، وكَوَّنَ تنظيمًا سريًا دَوَّخَ الحتلين، حتى إنه من فرط سرّيته لم يُعرف باسم بعينه.
أدرك القسَّام أن "تجريب المجرَّب الخاسر حُمق".. ذلك أنه ـ ككل العرب ـ جرب طريق الوعود الاستعمارية فانتهى من تجربته إلى يقين بحتمية مواصلة الكفاح المسلح لاسترداد الحق، ودفع البغي، فشارك في الثورة على الفرنسيين مع صالح العلي في جبل العلويين.
وقد اهتدى بثاقب فكرِه إلى البدْءِ من المسجد، عقب مغادرته سورية إلى فلسطين للحشد والتوجيه وبث روح الثورة، ليجعل للمعركة قدسية خاصة، وليخرّج جيلاً ذا عقيدة راسخة وإيمان عظيم.
وجهاد القسام تتضح أبرز معالمه فيما يلي:
1 ـ كان يحشد رجالاً ذاقوا مرارة الفقر واكْتَوَوْا بنار الاضطهاد؛ إذْ هم الأكثر صبرًا والأقدر على تحمل مشاق الجهاد دون المُتْرَفِينَ ضعافِ الهمم.
2 ـ وضع القسَّام أيديَ الناسِ على الحقائق المُرّة المحيطة بهم، وبصَّرَهم بأوضاعهم المتردِّية وحقوقهم المُهْدَرة والاضطهاد النازل بهم، وظل يذكي نيران الثورة في نفوسهم حتى جاء يوم الانفجار.
3 ـ كان الرجل شديد الحذر في انتقاء رجاله، ذا رَوِيّة في هذا الاختيار.
4 ـ دعا العلماء التقليديين إلى تحويل المبادئ النظرية التي يُعلّمونها الناس إلى حقائق واقعية يواجهون بها العدوانَ الصليبي الصهيوني.
5 ـ اعتمد القسَّام منهج الشورى، فلم يكن يتخذ قرارًا منفردًا.
6 ـ اتبع تنظيمًا هرميًا دقيقًا، وقسم أتباعه إلى مجموعات لا يزيد عدد كل منها على خمس، ولكل منها نقيب.
وحين جاء عام 1349هـ / 1930م بلغ "القسَّاميون" مائةَ عضو ـ بخلاف عموم أنصارهم.
وإمعانا في إحكام بناء عصبته لم يكن أحد لينتسب إليها إلا بعد مروره بمراحل تمتد إلى ثلاث سنين، تبدأ بالإعداد الفكري والنفسي، ثم التوجيه والتدريب العسكري. وبانتساب العضو للعُصبة يَكتب وصيتَه سلفًا تأهبًا لنَيْل الشهادة في سبيل الله، أما السلاح فقد كان على العضو أن يشتريه بماله الخاص إذا عجزت العصبة عن ذلك. ويمكن إرجاع تشكيلات هذه الفئة إلى وحدات خمسٍ بَدَتْ واضحةً بحلول عام 1935م:
1 ـ وحدة التسليح: وقد أسندت إليها مهمة توفير الأسلحة والذخائر بوسائل مشروعة؛ لأن الغاية الشريفة ينبغي التوسّل إليها بوسيلة شريفة.
2 ـ وحدة التدريب: أشرف عليها ضابط في الجيش العثماني، لم يُعرَف عنه شيء سوى أنه كان ينادى بالشيخ جلادت.
3 ـ وحدة المعلومات: وكانت تقوم بمهمة الاستخبار عن اليهود وخططهم في مستعمراتهم وما يعقدونه من اتفاقات مع الإنجليز المسيطرين على البلاد.
4 ـ وحدة الاتصالات السياسية: ويشرف عليها رجلان: الشيخ كامل القصاب، والشيخ محمود سالم المخزومي.
5 ـ وحدة الدعوة للثورة والتهيئة لها: وقد أشرف عليها الشيخ عز الدين القسَّام بنفسه.
صلته بالقدس
طارد الفرنسيون القسّام في موطنه سوريّة، فوقع اختيارُه على فلسطين يواصل كفاحه هناك، وانتقل إليها بعدما أخذت أطماع اليهود تَقْوَى وتمدّ عنقَها؛ قاصدةً الْتِهام القدس وفلسطين، فقاد الثورة، واعتُبر أبًا للفدائيين العرب هناك، وأنزل بالإنجليز والصهاينة ضرباتٍ موجعةً؛ كما حدث في عملية "نحلال" في سنة 1351هـ/1932م، التي قتل فيها الفدائيون بعض الغاصبين اليهود، فقاد رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية آنذاك "آرلوزوروف" تظاهرات صاخبة ضد المجاهدين، بل إن حكومة الانتداب الإنجليزية أعلنت عن مكافأة قدرها خمسمائة جنيه لمن يرشد عن منفذي عملية "نحلال"، لكنهم لم يفلحوا.
وعقب هذه العملية نفّذ رجال القسَّام ثلاث عمليات أخرى دون أن يكشفوا عن هويتهم، فوجه بعضُ الخونة أنظار الإنجليز إلى القسَّام ورجاله الذين لم يعد أمامهم إلا أنْ يُجاهروا بالقتال، فاعتصموا بالجبال، وأوجعوا الإنجليز والصهاينة ضربًا وتقتيلاً خريف عام 1354هـ/ 1935م حتى استشهد القسَّام وبعضُ رجاله في عملية "يعبد" الشهيرة.
وفاته
أصبحت المعارك سِجَالاً بعد التحول من الحرب السّرّية إلى المواجهة المسلحة المعلنة في وضع غيرِ متكافئ: بين القسَّام ورجالِه قليلي العدد والعُدة، وبين حكومة الانتداب الإنجليزية الفائقة في العدد والعُدة، يعاونها الصهاينة وبعضُ العملاء، وتمكن رجال القسَّام من تنفيذ عمليات أرّقتْ أعداءهم، حتى جاءت عملية قرية "يعبد" القريبة من حيفا حيث وضعت نهاية نبيلة للفارس عز الدين القسَّام بنيله الشهادة.
فقد قرر القسام الزحف من الجبال والقرى على حيفا مقدمًا لذلك بتفجير إحدى السفن الإنجليزية الراسية في الميناء، وكانت هذه العملية لأجل تحريك وضع البلاد الراكد، وإشعال الثورة على أرض فلسطين للحيلولة دون التهامها؛ وبينما القسَّام ورجاله فوق أحد الجبال في سبيلهم لتنفيذ ذلك، إذْ رصدتهم عينُ الجاسوس أحمد عارف، الذي سارع بإبلاغ أجهزة الاستخبار الإنجليزية فحشدت قواتٍ جاوزت خمسمائة جندي مسلحين بالمدافع الرشاشة، ومدافع الهاون، ومحمولين على عربات مصفحة وعربات جيب، تعاونهم من الجو طائرةُ استطلاع.. حيث أُحيط بالمجاهدين، وطُلب منهم الاستسلام، لكنهم رفضوا ذلك، وبدأت المعركة بسقوط أحد جنود الإنجليز قتيلاً، واحْتَدَمَتْ لمدة ساعتَيْن، وأسفرت عن استشهاد الشيخ عز الدين القسَّام وثلاثة من المجاهدين معه، منهم الشيخ محمد حنفي أحمد؛ وهو من مصر، بينما أُسِرَ أربعةٌ آخرون، وفي شهر رجب من سنة 1354هـ - 21 / 11 / 1935م، وبعد يومين من استشهادهم شُيعت جنازتهم المَهيبة في حيفا، حيث شارك في تشييعهم ما يجاوز عشرين ألف مشيع، وشمل الإضرابُ العام كل فلسطين.
وباستشهاد القسَّام لم تنطفئ الشعلة التي أوقدها؛ لأنه ترك تلاميذَ نُجَبَاءَ ساروا على الدرب، وانتفضت فلسطين ثائرة عام 1355هـ / 1936م في ثورة شهدت فيها البلاد أطول إضراب عُرف في تاريخها؛ إذ استمر لمدة ستة أشهر متصلة..