- اللغة والأسلوب
ا- فهي سلسة التعبير , سهلة اللغة , غير مفتقرة في معظم ما فيها إلى الشرح , حتى وصفها بعض الباحثين بأنها أوضح عرض لمذهب مالك رحمه الله , وهي كذلك , لولا عدم استيعابها لبعض المسائل , ووصفها الشيخ زروق بقوله : " رسالة ابن أبي زيد شهيرة المناقب والفضائل , غزيرة النفع في الفقه والمسائل , من حيث إنها مدخل جامع للأبواب , قيبة المرام في الحفظ والكتب والاكتساب ".
ولذلك كان من المفضل أن يبتدئ بها الراغب في قراءة فقه هذا المذهب , وألا يقفز إلى مختصر خليل , أو غيره من المصنفات قبل أن يكون مهيأ لذلك , وأرى أن تقرأ على الطلاب أول الأمر بعيداً عن تفاصيل الشروح ليتمكن الطالب من أمهات المسائل ثم يتدرج في معرفة التفاصيل .
وقد قال محمد بن عمر النابغة صاحب البوطليحية المتوفى سنة 1245 , ينتقد بعض ماكان سائداً في مجتمعه , وهو يريد أن ما يصلح من الكتب لشخص قد لا يصلح لآخر , لأن ذلك يختلف باختلاف الناس ومستوياتهم , وفي آخر الأبيات مالا يرتضى من القول :
علامة الجهل بهذا الجيل *** ترك الرسالة إلى خليل
وترك الأخضري إلى ابن عاشر ***وترك ذين للرسالة احذر
وترك الأجرومي للألفية *** وترك الألفية للكافية
إن خليلاً صار مثل الشم *** يشمه كل قليل الفهم
قد استوت فيه الكلاب والذئاب *** ماأبعد السماء من نبح الكلاب !
والملاحظ أن أسلوب المؤلف فيها لم يتغير كثيراً حين اتسع أفقه العلمي , ونضجت معارفه , كما يعرف ذلك بالمقارنة بين ما في عقيدته في هذه الرسالة مثلاً , وبين ماجاء في كتاب الجامع الذي جعله كالخاتمة لمختصر المدونة , ويترجح انه ألفه بعد مدة من تأليفها ,,,
ب- ومن ذلك أنها خالية من التعقيدات التي تميزت بها معظم مصنفات الفقه , والتفريعات التي أدرجت فيها استناداً إلى الافتراضات والآراء , فكان هذا من جملة العقبات التي حالت دون الاستفادة مما في هذه المصنفات من علم غزير , ولا سيما بعد أن فترت الهمم , وكلّت العزائم , ولم تنفع الشروح التي كتبت على تلك المصنفات في كثير من الأحيان , إن لم نقل إن بعضها فيه من الغموض والتعقيد أكثر مما في الأصل .
ح- ومنها الابتعاد عن التعاريف والحدود كما هو عادة المصنفين المتأخرين في الفقه وغيره .
د- ومنها عدم التقيد الصارم بالتراجم , إذ ربما ذكرت أشياء لا تدخل تحت الترجمة , فيذكرها تبرعاً , وقد لا يتقيد بذكر بعض المسائل في مواضعها .
ه- ويعثر قارئها على شيئ غير قليل من التكرار , إما ليرتب المصنف عليه أمرا جديدا يريد ذكره , وإما انه يكرر ليرسخ المعلومات ويؤكدها , أو يشير إلى شيئ بالمفهوم , ثم يذكره بالمنطوق , ولاسيما والرسالة قد كتبت للولدان كا سيأتي ,,
زمن التأليف
وقد كتبها مؤلفها وعمره سبع عشرة سنة , كما ذكره المترجمون له , ولذا وصفت الرسالة بأنها باكورة السعد , وقد دونت استجابة لرغبة من أحد رفاقه وتلاميذه , مؤدب الصبية ومعلمهم القرآن الكريم , وهو أبو محفوظ محرز , بفتح الراء , ابن خلف البكري المولود سنة 340 , المتوفى سنة 413 , وهو الذي أشار اليه في مقدمة كتابه ك" فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أور الديانة مما تنطق به الألسنة وتعتقده القلوب وتعمل به الجوارح ,,," .
العناية بتعليم الصغار
وقد رمى بكتابتها إلى أن تعتمد في تعليم الصغار , وهو ما بينه في مقدمتها حيث قال :" ,,, لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان , كما تعلمهم حروف القرآن , ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ماترجى لهم بركته , وتحمد لهم عاقبته " , وقال في ختامها :" لقد أتينا على ما شرطنا أن نأتي به في كتابنا هذا مما ينتفع به إن شاء الله من رغب في تعليم ذلك للصغار , ومن احتاج إليه من الكبار " .
وقد استحسن القاضي عبدالوهاب هذا من المؤلف حيث قال وهو بصدد شرح قوله :" وأرجى القلوب للخير ما يسبق الخير إليه " , قال وهذا حجة لأبي محمد فيما رسمه في هذا الكتاب من تعليم الولدان , لهذا قال بعض السلف :" لا تمكن زائغ القلب من أذنيك حراسة للقلب أن يتطرقه من ذلك ما يخاف أن يعلق به " .
وقد بين ابن أبي زيد رحمه الله ما للتعليم في الصغر من أهمية علمية وخلقية ونفسية في مقدمة رسالته , ما أحوجنا إلى أن نلتزمها حتى نجتنب هذه الهزات التي تغشانا بين الحين والحين , نتيجة التعليم المتعجل , وبواسطة هذه الرسائل الحديثة التي جلبت معها شراً كثيراً , على رأسه افتقار المعتمدين عليها إلى الأدب , والتدرج في اكتساب المعلومات , والتحلي بفضائل الأناة والصبر , ووضع خلاف المخالف في الحسبان حين مناقشة المسائل , فقد نبه إلى ضرورة تحفيظ الصبيان كتاب الله , وتعليمهم العقائد الصحيحة , وتدريبهم على الصلاة وغيرها من أمور الدين حتى يرتاضوا على أعمال الخير ويتعودوها , فلا يأتي عليهم البلوغ إلا وقد مالت إليها نفوسهم , وأنست بفعلها جوارحهم .
وإني لأعجب أن تكون هذه الرسالة موجهة في أصل وضعها لتعليم الولدان , وهي الآن مما يستثقله بعض الكبار , مما يدل على المستوى العلمي الذي كان عليه الصغار في الأمة قروناً , يوم كان العلم لا يطلب من أجل المعاش وحده , فتجده عند الفلاح والتاجر والبزاز والخباز , وهو أمر أخذ به الكفار في هذا الزمان , وغفل عنه المسلمون الذين صدر عنهم , فأصبح العلم يطلب للمعاش .
قال ابن حزم - رحمه الله- عن الأحاديث والآثار التي أوردها في المحلى بمناسبة كلامه على صلاة السفر :" ولم نورد إلا رواية مشهورة ظاهرة عند العلماء بالنقل , وفي الكتب المتداولة عند صبيان المحدثين , فكيف أهل العلم " ؟ , وقد نقل أثناء كلامه على هذه المسألة عن مصنفي ابن أبي شيبة , وعبد الرزاق , والبزار ,فضلاً عن صحيح مسلم وغيره .
وقال الشيخ شاكر- رحمه الله- معلقاً على قول ابن حزم السابق :" هذه الكتب التي كانت متداولة عند صبيان المحدثين في عصر ابن حزم - القرن الخامس - ومن أهمها مصنف ابن أبي شيبة , ومصنف عبد الرزاق , واختلاف العلماء لابن المنذر , صارت في عصرنا هذا , وقبله بقرون من النوادر الغالية التي لا يسمع اسمها الا الخواص من كبار المطلعين على كتب السنة , وعامة المشتغلين يالحديث لا يعرفونها ,,, " ( المحلى لابن حزم : 5/10 ).