ترجمة والدي رضي الله عنه: مقتطف من كتاب "تعريف المؤتسي بأحوال نفسي"
لنجله العلاّمة السيد عبد العزيز بن الصدّيق
هو محمد بن الصديق بن أحمد بن محمد بن قاسم بن محمد بن محمد مرتين بن عبدالمؤمن بن محمد بن عبدالمؤمن بن علي بن الحسن بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن عبدالله بن عيسى بن سعيد بن مسعود بن الفضيل بن علي بن عمر بن العربي بن علال بن موسى بن أحمد بن داود بن إدريس بن إدريس بن عبدالله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وفاطمة الزهراء بنت مولانا وسيدنا وسندنا ووسيلتنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
هذا هو النسب المعروف الشائع بين عائلتنا والموجود بأيديهم في بعض التقاييد القديمة .
ولادته رضي الله عنه: ولد ليلة الجمعة خامس رجب سنة خمس وتسعين ومائتين وألف بتجكان من قبيلة بني منصور الغمارية، وحفظ القرآن وهو صغير برواية ورش، ثم شرع في حفظه بالروايات السبع فقرأ ختمة برواية المكي على شقيقه سيدي أحمد رحمه الله .
طلبه للعلم : وبعد فراغه من حفظ القرآن، شرع في طلب العلم ببلده على أخيه العلامة البارع صاحب الأخلاق الحسنة سيدي محمد القاضي، وعلى ابن عمه العلامة المحقق زين العابدين بن محمد المؤذن فأخذ عنهما بعض المبادىء .
رحلته للطلب : وبعد هذا رحل به والده إلى فاس سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف، وأنزله بمدرسة الشراطين. ولم يذهب به إلى زاوية أصحاب أبيه لينقطع للعلم ولايشغله الفقراء (المريدون) عن طلبه...إلخ
سلوكه لطريق القوم : وفي هذه الأثناء حصل له مرض ألزمه الفراش، فبينما هو ذات يوم في بيته من المدرسة إذ دخل عليه الشيخ الإمام العارف القدوة، بقية السلف الصالح، القطب الرباني سيدي محمد بن إبراهيم رضي الله عنه ونفعني به فقال له: أنا بفاس وأنت وحدك بالمدرسة هذا لايمكن ، قم معي فأخذه إلى الزاوية وبرَ به وأكرمه غاية... ثم صار يكتب له المتون في لوح ويقول له: إن حفظته أعطيتك ربع ريال، فكان كلما حفظ لوحاً أعطاه إياه تحريضاً له على حفظ المتون. ثم لقنه الورد وجرده لسلوك الطريق مع طلب العلم، فكان يرتضع لبان الثديين في آن واحد. وقرأ معه أيضا الحكم لابن عطاء الله، والعهود المحمدية والمنن الكبرى للشعراني، ورسائل جده سيدي الحاج أحمد بن عبد المؤمن ، والتنوير لابن عطاء الله .
وأمره بالحضور على علماء القرويين وعيَن له من يقرأ عليهم لصلاحهم وبركة علمهم ...إلخ
ثم لما كانت الزاوية بعيدة عن القرويين صار يصوم أيام القراءة حتى لا يرجع وسط النهار إلى الزاوية لتناول الطعام ..
وفي ربيع الثاني من سنة خمس عشرة رجع إلى وطنه ثم عاد إلى فاس فلزم شيخه بالزاوية إلى سنة ثمان عشرة .
نبذة فيما أكرمه الله تعالى من الفضائل والمزايا :
فمن ذلك جمال الصورة الحسية والمعنوية وكمال الذات الجسمية والروحية.
أما جمال الصورة المعنوية وهو ما أكرمه به من الأخلاق المحمدية فقد مر بعضها .
وأما جمال الصورة الحسية فقد أكرمه الله تعالى بكمال الذات، واعتدال القامة مع ميل إلى الطول شيئا قليلا،وتوسط الجسم فلا هو سمين كثير اللحم ولا هو رقيق، بين العروق والعظم . مستدير الوجه إلى الأسالة، كبير العينين أسودهما، طويل الأشفا، واسع الفم، مفلج الثنايا، فصيح اللسان، أبيض اللون مشربا بالحمرة، كث اللحية أسودها إلا أنه شاب في مقتبل كهولته، فكان يديم الخضاب بالحناء فصارت حمراء مزهرة زادته نورا وبهجة. في أعلى جبهته دينار مخالف للجسم من أثر السجود. جميل الأطراف، سليم الأعضاء، واسع الصدر، بعيد ما بين المنكبين، إذا مشى أسرع في مشيته ومشى قصدا لا يلتفت يمينا ولا شمالا، إذا ماشاه أحد يتعب في المشي من حيث يكون هو مستريحا لأنها مشيته العادية .
ومن ذلك: النور والبهاء والهيبة التي لم نرها على أحد من أهل عصره لا بالمشرق ولا بالمغرب، حتى كان لا يستطيع أحد أن يكلمه وهو ينظر إليه من هيبته. وكان أعداؤه يقابلونه في الطريق فما يشعرون بأنفسهم إلا وقد انحنوا لتقبيل يده.
ولما كان بالقاهرة والإسكندرية كان لا يمر بشارع من شوارعها إلا قال الناس عند رؤيته: ما شاء الله اللهم صل على سيدنا محمد. استعظاما لبهائه وجلالته .
ومن ذلك: الحرية وعدم الخوف من المخلوق، فكان يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، وينفذ رأيه وما يريده معارضا بذلك الحكام وأعاظم الدول، كأنه أكبر ملوك الأرض وأكثرهم جنودا وأمنعهم قوة. وما ذلك إلا اعتمادا على الله تعالى وتعززاً بجنابه، واحتماء بنصرته وولايته.
ومن ذلك: حفظه من الذنوب من صغره، وكونه شب ونشأ في طاعة الله تعالى لم تحصل له صبوة في شبابه ولم تجر منه مخالفة في صباه إلى بلوغه كحاله كما كان يذكر ذلك عن نفسه تحدثا بنعمة الله تعالى عليه، وكما كان يذكره أقاربه من أقرانه ومن كان أكبر سنا منه ممن نشؤوا معه من صغره .
ومن ذلك ما اختار الله له لمحبته في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وموافقة سنته في كل شيء وسعيه أن يحصل له كل ما حصل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أقول من ذلك ما اختار الله له من موافقته في كثير من أموره بغير قصد منه واختيار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد موته ، ففي حياته تزوج قبل وفاته بشهر ونصف أو نحوه بزوجة لم يدخل بها لأنها زفت إليه في رمضان، وكان الضعف ومرض القلب الذي مات منه قد اعتراه مع الصيام إلى أن مات في سادس شوال. وكذلك تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيلة بنت قيس الكندية قبل وفاته بشهرين وقيل في مرض موته وقيل في ربيع الأول، ولم يدخل بها لتأخر قدومها عليه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وآله وسلم .
ولما حج الشيخ رضي الله عنه كانت وقفته بالجمعة كما كانت وقفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الشيخ خرج للحج قبل ظهور ذلك لأن خروجه من وطنه كان في شعبان كما سبق
وتوفي الشيخ رضي الله عنه وعليه ديون كما توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه دين كذلك .
ولم يتزوج على زوجته الأولى إلى أن توفيت ثم أخذ بعدها زوجات متعددات، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتزوج خديجة رضي الله عنها إلى أن ماتت فأخذ زوجات متعددات .
وكانت زوجته الأولى فاضلة عاقلة صالحة ذات مناقب وكرامات كما كانت خديجة رضي الله عنها ذات مناقب جمة وفضائل عديدة .
قلت: وكان معه من ينافقه في صحبته ومعاشرته ويخادعه في الاعتقاد، ويعامله في الظاهر بخلاف ما في باطنه من عداوته وبغضه كما كان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المنافقين. ولا يحصى كم لزم باب الشيخ ممن يدعي الصحبة والمحبة والخدمة وهو جاسوس للكفار يبلغ أخباره إليهم، ويأكل الخبز من وراء ذلك. وكان الشيخ يطلع على أحوالهم في ذلك ويعرفهم غاية المعرفة ولا يظهر لهم شيئا؛ بل ولا يحب أحدا ممن عرفهم أن يشير لهم إلى شيء .
وأما بعد موته وانتقاله إلى الآخرة فإن الله سلك به أيضا مسلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، في محاربة بعض أصحابه كمعاوية ومن تبعه لأولاده وأهل بيته عليهم السلام؛ فقد تجرد أيضا لمحاربة أنجال الشيخ وإذايتهم ورفع لواء العداوة لهم من كان يزعم صحبته ومحبته وخدمته في حياته كما كان يزعم معاوية الصحبة وكتابة الوحي .
ومن ذلك: كون نعمه مكفورة غير مشكورة ولا مذكورة ادخارا لثوابها عند الله تعالى دلالة على كمال إيمانه وكونه من أهل ولاية الله تعالى ورحمته. فإن أكثر من ناله فضل الشيخ وإحسانه لم يشكر ذلك ولا كان يعترف به لاسيما وقد أسكنه الله بالمدينة التي هي معدن هذا المعنى وأساسه؛ وقد روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((المؤمن مكفر)) يعني يصنع المعروف فلا يشكر.
قلت وفي حديث آخر عند ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق : ((رحمة الله على المكفرين)) .
إلى غير هذا من المزايا والفضائل التي تفوق الحصر...إلخ.
وفاته : كان رضي الله عنه مريضا بضعف القلب والخفقان مصحوبا معه من مدة طويلة، إلا أنه لم يكن ظاهرا فيه إلا في بعض الأحيان. ثم في أواخر شهر رمضان قوي فيه إلا أنه لم يلزمه الفراش فكان يخرج لمحل مقابلة الزوار والضيوف . ولما كان يوم عيد شوال قابل كثيرا من الناس على عادته...
وعند قرب الانتقال اشتد به الحال فجمع أهله ومن كان حاضرا من أولاده وأوصاهم فحثهم على التقوى والتمسك بالدين والعمل بالسنة واجتناب البدعة وملازمة ذكر الله تعالى. ولما كان يوم الأربعاء سادس شوال اشتد عليه الحال أكثر مما كان وظهرت عليه علامة الانتقال، فأرسل إلى بعض الفقراء(المريدين) فحضروا إليه فأمرهم بذكر الله تعالى أيضا إلى قرب المغرب، فأمر بخروجهم. فدخل عليه أهله وأنجاله ولم تمض إلا هنيهة حتى فاضت روحه وانتقلت إلى الرفيق الأعلى. وذلك سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وألف. وكانت له جنازة لم تر طنجة مثلها منذ خلقها الله تعالى، وحضر الناس من سائر مدن المغرب، وذهب بجنازته إلى الجامع الكبير للصلاة عليه بها لكثرة الناس وازدحام الخلق. ورؤي اليهود يبكون من مهابة ذلك المحفل وما جعل فيه من النور والبهاء. وتبرك الناس بنعشه ووزعت سجادة كانت تحته خيوطا للتبرك..
ثم رد إلى الزاوية ودفن ليلة الجمعة وبنيت على قبره قبة وقبره يزارويتبرك به رضي الله عنه وعنى به وأكرمنا بمجاورته في دار كرامته إنه سميع مجيب. والحمدلله رب العالمين .